أمر الإسلام كلًا من الإنس والجن بالخضوع لإرادة الله، واتباع الأوامر والتوجيهات التي وردت في القرآن والسنة النبوية، وفي هذا المقال نناقش أمر تكليف الجن، وهل الجن مكلف بنفس عبادات الإنس أم لا، فتابع معنا.
تكليف الجان وحقيقة وجوده
تعد الجن كائنات خفية، وغير مرئية، ومخلوقات ذكية خلقها الله من نار، وهم مجتمعون كجنس، ولهم قدرة على التفاعل مع البشر والتأثير عليهم.
إن الجن مكلفون بأعمالهم ويحملون مسؤولياتهم تجاه تصرفاتهم وقراراتهم. فيُعاقب الجن على الأعمال السيئة التي يقومون بها، مثل: الإضرار بالناس، أو إثارة الفتن والفساد، قال تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا﴾ [الأنعام: 130].
والمعنى أنه يا معشر الجن والإنس قد جاءتكم رُسل تنبئكم، ويلقون عليكم آيات الله لتتبعوا دينه، وتعبدوه حق العبادة، قالوا نعم قد جاء لنا الحق، وجاءت لنا الدعوة، ولكن قد أقررنا بتكذيب تلك الرسل.
وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بُعث إليهم كما بُعث لنا، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]. فكلمة “العالمين” هنا تطلق على الجن والإنس، ويدل ذلك على حقيقة تكليف الجن، ويحاسبون على أفعالهم مثلما يحاسب البشر.
وأنهم خُلقوا لعبادة الله -تعالى- تمامًا كالبشر، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
وعن أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ قَالَ: “إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ” [3].
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين ردًا على أحد المتسائلين، إن حقيقة تكليف الجن بلا شك واجبة، فهناك المسلم الذي يتبع طريق الله تعالى وسنة نبيه، وهناك الكافر، ومنهم الصالح ومنهم ما دون ذلك، قال تعالى في سورة الجن عنهم أنهم قالوا: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً﴾، وقالوا: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾.
وأن الله بعث نفرًا من الجن يستمعون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يستمع القرآن فآمنوا به، وذهبوا ليدعوا قومهم، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ لهم عذاب أليم﴾.
يقول أَبُو عمر بن عبد الْبر إن الجماعة أقروا بوجود تكليف الجن جميعهم، فهم جميعًا مخاطبون لقَوْله تَعَالَى {فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ} في سورة الرحمن، ويؤيد الرازي هذا الرأي.
وقيل أن الله تعالى ذكر في القرآن وجوب تكليف الجان، وذم للشياطين، ولن يفعل الله تعالى ذلك إلا لمن خالف أمره وعصاه، فجاء الذم واللعن جزاءً لارتكاب الجرائم التي حرمها الله، ويدل قوله {قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ} إِلَى قَوْله {فَآمَنا بِهِ وَلنْ نشْرك بربنا أحدا} وغيرها من الْآيَات على تكليفهم، وَأَنَّهُمْ مأمورون بفعل الطاعات، ومنهيون عن المنكرات.
اقرأ أيضًا: أبرز أنواع الجن المتلبس بالإنسان
هل فُرض الحج على الجن؟
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين إن تكليف الجن تمامًا كتكليف الإنس من العبادات، فيجب عليهم إقامة الأركان الخمسة التي من ضمنها حج بيت الله الحرام، وحجهم يكون كالبشر في الزمان والمكان.
وفيما يتعلق بحقيقة وجودهم فإننا لا نراهم، فتختلف العبادة في جنسها التي لا نعرفها، فتكون هيئتهم مختلفة عنا، ولكن أصل الموضوع واحد، والله تعالى أعلم.
اقرأ أيضًا: هل هناك أنبياء من الجن؟
هل تكليف الجن يشمل الفروع من الأعمال؟
يقول الشيخ أبو العباس أحمد بن تيمية إن الجن مكلفون بالجُملة، لكن ليس على الحد المكلف به الإنسان، فهم يخالفون الإنس في الهيئة فكذلك يخالفوهم في بعض التكاليف المفروض.
فمثًلا هناك من الجن من له قدرة على الطيران، فيحج بيت الله طائرًا، ولعدم وجود هذه القدرة في الإنسان، فيقضون الحج حول الكعبة مشيًا على الأقدام، لذا تختلف هيئة كلٍ من الجن والإنس في العبادات.
ويقول العلماء إن الجهاد كُتب على المؤمنين، ولم يُكتب على الكفار، لأن ليس لديهم مصلحة في ذلك، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا) [التَّوْبَةِ: ١٢٣]، وعدم وجود مصلحة في الجهاد من الكفار سواءً من الجن أو الإنس، ولذا فالجن والإنس مكلفون بالجهاد والصلاة وغيرها من فرائض الإسلام.
وكما ذكرنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُرسل للجن والإنس فجميع ما أمر به وما نهى عنه واجب عليهما، مما يؤكد تكليف الجن، ويشمل ذلك فروع الدين، فاتباع الدين لا يأتي باتباع الأصل وترك الفرع.
حساب الجن عند عدم اتباع تكاليف الله
يُعَذب الجن مثلما يعذب الإنس، بل إن عذاب إبليس من الجن سيكون أشد، وسيدخل جهنم، وسيخلد فيها، فقد بيّن الله سبب ذلك في قوله تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.. قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ). [الأعراف/12– 18]
وبالمنطق، يأتي الحساب نتيجة التكليف، مما يقر بتكليف الجن.
ويقول الطبري أن الله تعالى أقسم أن من اتبع من البشر إبليس وأعوانه، وصرف عن ذكر الله، سيكون مصيره كمصيرهم، قال تعالى: (قَالَ يَا إِبلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ.. إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ.. وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ). [الحجر/32– 44]
كيف يعذب إبليس في جهنم، وقد خُلق من نار؟
بعد معرفة تفاصيل تكليف الجن دعنا نخبرك أنه لا يلزم كون الجن خلقوا من نار أن يكونوا الآن نارًا، كما أن الإنس خلقوا من طين وليسوا الآن طينًا بل يؤذى إذا قُذف أحدهم بالتراب أو الطين.
يقول أبو الوفاء بن عقيل إن الشياطين والجان خلقت من النار، وبني آدم من الطين، ولكن الآن ليس الآدمي طينًا حقيقة، كذلك الجان كان ناراً في الأصل.
لذا ليس غريباً أن يكون الجن قد خلقوا من النار، ويعذبون بنار جهنم، والدليل أنه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي فأتاه الشيطان فأخذه فصرعه فخنقه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (حتى وجدت برد لسانه على يدي، ولولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لأصبح موثقًا حتى يراه الناس). رواه النسائي في “السنن الكبرى” (6 / 442)
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك ثم قال: ألعنك بلعنة الله ثلاثًا وبسط يده كأنه يتناول شيئًا، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله قد سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك، قال: إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر، ثلاث مرات، ثم أردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقًا يلعب به ولدان أهل المدينة. رواه مسلم (542)
وأيضًا لو كان الشيطان من نارٍ الآن وأراد الله أن يعذبه لفعل، فقوله إذا أراد شيئًا أن يقول لشيء كن فيكون، فالله تعالى قادر وأعلم بكل شيء.
الخلاصة
كان ذلك أبرز ما جاء في حقيقة تكليف الجن، وأن لها واجبات ومسؤوليات تشابه تلك الموكلة إلى البشر. ومن تلك المسؤوليات التكليف بعمل الطاعات، وترك المنكرات، وسماع قول الله تعالى.
فهم مسؤولين عن أفعالهم في الدنيا، ويجب عليهم الالتزام بأداء الطاعات وتجنب المعاصي، فإنهم مثلنا يختارون بين الطاعة والمعصية، فمنهم المسلم ومنهم الكافر.
وتذكرنا الآيات القرآنية بأن الله تعالى يرسل رسله ويوجه الدعوة للجن والبشر على السواء، وأن الجن لهم قدرة على الاستجابة لهذه الدعوة، والالتزام بالطاعات.