كانت رسالة النبي ﷺ للبشر كافةً بجميع طوائفهم وألوانهم، إذ أرسله الله سبحانه وتعالى خاتماً لجميع رسالات من سبقه من الأنبياء، وهنا يتساءل البعض، هل عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تشمل الجن أيضاً أم كانت للبشر فقط؟ وهل آمن به الجن وأعلنوا ذلك؟
لذا نعرض في هذا المقال الدلالات الخاصة بهذا الأمر من القرآن والسنة.
تفسير الرسالة النبوية واستمراريتها
فهم رسالة النبي ﷺ أمر أساسي لفهم آثارها على الإنس والجن. فالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) جاء برسالة تتجاوز الزمان والمكان والثقافة. ولفهم هذه الرسالة، يجب الانغماس في مبادئها الأساسية، ومن ثم إثبات عموم رسالة النبي ﷺ، وتتمثل مبادئها في:
التوحيد
في قلب رسالة النبي ﷺ يكمن اعتقاد وحدانية الله. ويؤكد هذا الأساس التوحيدي أن هناك إلهًا واحدًا هو الخالق للكون، رحيمٌ وعادل. ويشكل هذا الاعتقاد أساس العلاقة بين الإنس والجن وخالقهم.
الإرشاد للحياة
تضم رسالة النبي ﷺ نهجًا شاملاً للحياة (الإسلام)، إذ يوجه الأفراد في كل جانب من جوانب الحياة. ويتناول هذا النهج مسائل الإيمان، والأخلاق، والعائلة، والعدالة الاجتماعية، والحوكمة. وفهم هذا التوجيه الشامل يساعد الأفراد على قيادة حياة هادفة وصالحة.
الرحمة والعدالة
تشجع رسالة النبي ﷺ على الرحمة والتعاطف والعدالة، ليس فقط مع البشر بل أيضًا مع كل مخلوقات الله، بما في ذلك الحيوانات والبيئة، مما يُثبت عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
الأخوّة
تشدد رسالة النبي ﷺ على مفهوم التآخي بين المؤمنين، بغض النظر عن جنسيتهم أو جنسهم أو وضعهم الاجتماعي. وهذه الأخوة العالمية تمتد أيضًا إلى الجن، إذ إنهم جزء من خلق الله.
المساءلة
جاء في عموم رسالة النبي ﷺ أن جميع الأفراد -بما في ذلك الجن- سيُحاسبون على أعمالهم في يوم القيامة. وهذه المساءلة تعد بوصلة أخلاقية، توجه الأفراد لاتخاذ قرارات صالحة.
فهم رسالة النبي ﷺ يشمل دراسة القرآن، والحديث النبوي، ويتطلب أيضًا التفكير في حياة النبي ﷺ والسياق الذي قدم فيه رسالته.
دلالات عموم رسالة النبي ﷺ للبشر كافةً
تتضح دلالات عموم الرسالة في:
دلالات من القرآن
قال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) {الأعراف:158}، وقال أيضاً: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) {سبأ:28}، ففي هذه الآيات بيانٌ صريحٌ بعموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لجميع الناس.
وقال سبحانه وتعالى أيضًا: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) {آل عمران:81-82}.
وفي آية أخرى قال تعالى: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) {آل عمران: 20}.
ومن هنا نعرف أنه لا طريق إلى الله إلا باتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وحتى من كان على دين نبي الله موسى أو عيسى عليهما السلام، ثم أدرك النبي محمد ﷺ فقد وجب عليه اتباعه.
دلالات من السنة
قوله -صلوات الله عليه- في الصحيحين: “وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصةً، وبُعثت إلى الناس عامة”.
وجاء في الحديث أيضًا: “لو كان موسى حيّاً بين أظهركم ما حلّ له إلا أن يتبعني”، رواه أحمد.
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: “ما بعث الله نبيّاً إلا أخذ عليه الميثاق: “لئن بُعِثَ محمد وهو حيٌّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق: لئن بُعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به، ولينصرنه”.
ففي هذه الأحاديث وغيرها الكثير من الدلائل التي بدورها أيضًا تؤكد على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لكافة البشر، فلا يجوز لأحد أن يؤمن برسالة النبي محمد ﷺ دون الإقرار بعمومها.
دلالات من القرآن على رسالة النبي ﷺ للجن
استكمالًا للحديث عن عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فهناك العديد من الدلالات القرآنية التي تؤكد على رسالته للجن، ويمكن تقسيمها كالتالي:
التكليف
قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ) {الذاريات: 56-57}. فالآية صريحة في أن الله قد خلق الجن والإنس للعبادة.
المسؤولية عن الأعمال
فقال الله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) {الكهف: 7}.
تؤكد هذه الآية أن الله يختبر جميع الكائنات على الأرض، مما يشير إلى أن جميع الكائنات -بما في ذلك الجن- مسؤولة عن أعمالها.
الإقرار بالرسالة
قال سبحانه وتعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا) {الأنعام: 130}.
وهذه الآية ليست دليل على عموم رسالة النبي محمد ﷺ فقط، وإنما تُثبت أن الله أرسل الرسل إلى الجن أيضاً فيما سبق.
حرية الاختيار
إذ قال الله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) {الرحمن: 33}.
بينما تتعامل هذه الآية أساسًا مع الجن، إلا أنها تظهر أن لديهم -مثل البشر- حرية الاختيار والمسؤولية عن أعمالهم.
اقرأ أيضًا: هل هناك أنبياء من الجن؟
رأي العلماء في عموم رسالة النبي
لم يجادل أحد من الصحابة ولا علماء المسلمين في أن الله تعالى أرسل النبي محمد ﷺ للإنس والجن معاً، وفيما يلي نعرض جميع الآراء الخاصة بذلك:
حديث جابر بن عبد الله
ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: “أُعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي إلى أن قال: وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة”.
قال ابن عقيل: الجن داخلون في مسمى الناس لغةً، وقال الراغب: الناس جماعة حيوان ذي فكر وروية، والجن لهم فكر وروية والناس من ناس ينوس إذا تحرك.
وقال الجوهري أيضًا: الناس قد يكون من الإنس ومن الجن.
حديث أبي هريرة
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: “قال رسول الله ﷺ: بُعثت إلى الأحمر والأسود”، واختلف العلماء في المعنى المراد من الأحمر والأسود هنا فقيل: هم العرب والعجم، لأن الغالب على العجم الحمرة والبياض، وعلى العرب الأدمة والسواد، وقيل أيضاً: أراد الإنس والجن.
ويؤيد قول من قال أنهم الجن أن إطلاق السواد على الجن صحيح باعتبار مشابهتهم للأرواح، والأرواح يقال لها أسودة كما في حديث الإسراء: (أنه رأى آدم وعن يمينه أسودة وعن شماله أسودة وأنها نسم بنيه).
حديث ابن عباس
روى رشمة بن موسى من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: (أرسلت إلى الجن والإنس وإلى كل أحمر
وأسود).
قال ابن عبد البر: ولا يختلفون أن محمداً رسول الله ﷺ أُرسل إلى الإنس والجن بشيراً ونذيراً، وهذا مما فُضِّل به على الأنبياء أنه بُعث إلى الخلق كافةً: الجن والإنس، وغيره لم يرسل إلا لمكان قومه فقط.
حال من سبق النبي محمداً ﷺ من الرسل
أرسل النبي ﷺ إلى الجن والإنس كافةً، فهل كان هذا شأن من قبله من الرسل -عليهم السلام-؟ أم أن محمدًا ﷺ كان أول رسول إلى هؤلاء الخلق -الجن-؟
وهنا نجد أن كل رسولٍ بُعث برسالته قبل النبي محمد ﷺ إلى قومه فقط، ولكنه كان يرسل كنذير للجن من قومه أيضًا، حتى وإن كان لا يعرف تفاصيل الجن ولا أسمائهم، لكنه مبعوث إليهم، وعليهم أن يسمعوا له ويطيعوه، وينتفعوا برسالته، ويعملوا بها.
فإذا كانوا من قومه من بلده أو من قومه الذين بُعث إليهم، فعليهم اتباع هذا الرسول؛ لأنه أرسل إليهم أيضًا.
الخلاصة
النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو مصدر للإرشاد والرحمة لجميع العوالم، فهو رسول تمتد رسالته على حد سواء إلى الإنسانية وعالم الجن الذي لا يُرى، ومن خلال القرآن، ندرك عموم رسالة النبي ﷺ التي تتجاوز الحدود والثقافات، وحتى عوالم الوجود.
وفي القرآن، نجد لمحات من حرية الاختيار لدى الجن وقدرتهم على الإيمان، مما يذكرنا بأنهم، مثل البشر، مكلفين بالاختيار لاحتضان الرسالة الإلهية، والسعي للقرب من خالقهم بالعبادة.
ففي هذا الضوء، تتردد آثار رسالة النبي ﷺ عبر تاريخ الإنسانية، سعيًا نحو عالم يتجاوز فيه التفاهم الاختلافات، حيث يسطع نور الحكمة الإلهية على جميع الكائنات، سواءً كانوا بشرًا أم جنًا.